فصل: سنة اثنتين وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك **


 سنة ست وتسعين وخمسمائة

وأهلت سنة ست وتسعين والأخوان على حصار عمهما العادل بدمشق وقد خربت البساتين والدور وقطعت الأنهار وأحرقت الغلال وقلت الأقوات‏.‏

وعزم العادل على تسليم دمشق لكثرة من فارقه وخرج عنه إلى الأفضل فكتب إلى ابنه الكامل يستدعيه وكتب إلى نائب قلعة جعبر أن يسلمه ما يستدعيه من المال وكانت أموال العادل بها فسار إليه الكامل في العسكر الذي معه وأخذ من قلعة جعبر أربعمائة ألف دينار وقدم على أبيه فقوي بقدومه قوة عظيمة ووقع الوهن في عسكر الأفضل والظاهرة لكثرة من خامر منهم ودس العادل مكيدة بين الأخوين وهي أن الظاهر كان له مملوك يقال له أيبك وقد شغفه حباً ففقده وظن أنه دخل دمشق فعلق وبلغ ذلك العادل فبعث إليه بكلام فيه‏:‏ أن محمود بن الشكري أفسد مملوكك وحمله إلى الفضل فقبض الظاهر حينئذ على ابن الشكري وظهر المملوك عنده فما شك في صدق ما قاله عمه ونفر من أخيه وأمتنع من لقائه وكان البرد قد اشتد فرحلا إلى الكسوة وسار إلى مرج الصفر ثم سارا إلى رأس الماء فغلت الأسعار وقوي البرد فرحل الظاهر على القريتن ورحل الأفضل بعساكره يريد مصر وتركوا من أثقالهم ما عجزوا عن حمله فأحرقوه وهلك لهم عدة مماليك ودواب ودخل الأفضل إلى بلبيس في خامس عشرى شهر ربيع الأول فأشير عليه بالإقامة بها‏.‏

وورد الخبر بأن العادل خرج من دمشق ونزل تل العجول وأنه كتب الإقامات للعربان واستدعى الكنانية فجمع الأفضل الأمراء وركب ودار على سور بلبيس وأمر قراقوش بحفظ قلعة الجبل وأن يهتم بحفر ما بقي من سور مصر والقاهرة وأنه يعمق الحفر حتى يصل إلى الصخر ويجعل التراب داخل المدينة على حافة الحفر ليكون مثل الباشورة ويستعمل الأبقار فيه ويعمل ذلك فيما بين البحر وقلعة المقس حتى لا يبقى إلى البلد طريق إلا من أبوابها‏.‏

وفي ثاني ربيع الآخر‏:‏ نزل العادل قطية فهم الفضل بتحريق بلبيس فنفرت القلوب منه وقطع أرزاق المرتزقة من جانب السلطان ومن الأحباس على مكة والمدينة والفقهاء وأرباب العمائم ليغلق الذي للجند فما سد المأخوذ ولا انقطع الطلب من الأجناد وثار الضجيج من المساكن‏.‏

ووصل العادل فواقعه الأفضل فانكسر منه وانهزم فتبعهم العادل إلى بركة الجب فخيم بها وأقام ثمانية أيام ولحق الأفضل بالقاهرة فدخلها يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر وخامر جماعة عليه وصاروا إلى العادل وألجأت الضرورة الأفضل إلى مراسلة العادل فطلب منه أن يعوضه عن ديار مصر بدمشق فامتنع العادل وقال‏:‏ لا تحوجني أن أخرق ناموس القاهرة وآخذها بالسيف اذهب إلى صرخد وأنت أمن على نفسك فلم يجد الأفضل بداً من التسليم لتخاذل أصحابه عنه‏.‏

فتسلم العادل القاهرة ودخلها يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر وخرج منها الفضل منهزماً في ذلك اليوم وكان الوزير ضياء الدين ابن الأثير قد قدم إلى مصر وتمكن من الأفضل فلما تسلم العادل القاهرة فر ولحق بصرخد وكانت مدة استيلاء الفضل على ديار مصر سنة واحدة وثمانية وثلاثين يوماً وخرج إلى بلاد الشرق فأقام بدمياط وكان مدة إقامته بالقاهرة لا يقدر أن يخلو بنفسه في ليل ولا نهار وكان الأمراء قد حجروا عليه أن يخلو بأحد وكانت الضرورة ملجئة إلى موافقتهم‏.‏

وأقام العادل بالقاهرة على أتابكية الملك المنصور وحلف له الأمراء على مساعدته ليقوم بأتابكية المنصور إلى أن يتأهل للاستقلال بالقيام بأمور المملكة فلم يستمر ذلك‏.‏

فانتقض الأمر في الحادي والعشرين من شوال وذلك أن الملك العادل احضر جماعة من الأمراء وقال لهم‏:‏ إنه قبيح بي أن أكون أتابك صبي مع الشيخوخة والتقدم والملك ليس هو بالارث وإنما هو لمن غلب وأنه كان يجب أن أكون بعد أخي الملك الناصر صلاح الدين غير أني تركت ذلك إكراماً لأخي ورعاية لحقه فلما كان من الاختلاف ما قد علمتم خفت أن يخرج الملك عن يدي ويد أولاد أخي فسست الأمر إلى آخره فما رأيت الحال ينصلح إلا بقيامي فيه ونهوضي بأعبائه فلما ملكت هذه البلاد وطنت نفسي على أتابكية هذا الصبي حتى يبلغ أشده فرأيت العصبيات باقية والفتن غير زائلة فلم آمن أن يطرأ على ما طرأ على الملك الأفضل ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبون إقامة إنسان آخر وما يعلم ما يكون عاقبة ذلك والرأي أن يمضي هذا الصبي إلى الكتاب وأقيم له من يؤدبه ويعلمه فإذا تأهل وبلغ أشده نظرت في أمره وقمت بمصالحه‏.‏

هذا والأسدية كلهم مع العادل على هذا الرأي فلم يجد من عداهم بداً من موافقته فحلفوا له وخلعوا المنصور في يوم الخميس وخطب للعادل من الغد يوم الجمعة حادي عشرى شوال فكانت سلطنة المنصور سنة واحدة وثمانية أشهر وعشرين يوماً‏.‏

السلطان سيف الدين أبو بكر بن أيوب السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب ولما حلف له الأمراء استولى على سلطنة مصر في حادي عشرى شوال وخطب له بديار مصر وأرض الشام وحران والرها وميافارقن واستحلف النلس بهذه البلاد وضربت السكة باسمه واستدعى العادل ابنه الملك الكامل ناصر الدين محمداً فحضر إلى القاهرة في يوم الخميس لثمان بقين من رمضان ونصبه نائباً عنه بديار مصر وجعل الأعمال الشرقية إقطاعه كما كانت إقطاعاً للعادل في أيام السلطان صلاح الدين وجعله ولي عهده وحلف له الأمراء‏.‏

وفيها أقيمت الخطبة للعادل بحماة وحلب وضربت السكة باسمه‏.‏

وفيها توقفت زيادة النيل فلم يجر إلا ثلاثة عشر ذراعاً تنقص ثلاثة أصابع وشرق معظم أرض مصر فارتفعت الأسعار‏.‏

وفيها استناب العادل بدمشق ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى واستناب ببلاد الشرق ابنه الملك الفائز وأقر بحلب ابن أخيه الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين وبحماة الملك المنصور بن تقي الدين عمر‏.‏

وفيها أخرج الملك العادل ابن ابن أخيه الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر ومعه إخوته وأخواته ووالدته فساروا إلى الشام ثم سيرهم إلى الرها فهربوا منها إلى حلب وبقي الملك المنصور‏.‏

بمدينة الرها حتى مات سنة عشرين وستمائة وكان قد أصبح أميراً عند الظاهر صاحب حلب‏.‏إبراهيم بن منصور بن المسلم أبو إسحاق المعروف بالعراقي خطيب الجامع العتيق بمصر في حادي عشرى جمادى الأولى عن ست وثمانين سنة‏.‏

ومات القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج ابن أحمد اللخمي العسقلاني مولداً البيساني أبو علي محيى الدين فى سابع ربيع الآخر‏.‏

ومات الأثير ذو الرياستين أبو الطاهر محمد بن ذي الرياستين أبي الفضل محمد بن محمد بن بنان الأنباري في ليلة الثالث من ربيع الآخر ومولده بالقاهرة سنة سبع وخمسمائة‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ولد بالقاهرة مولود له جسد واحد ورأس فيه وجهان فى كل وجه عينان وأذنان وأنف وحاجب‏.‏

وولد أيضاً بها مولود له غرة كغرة الفرس ويداه ورجلاه محجلتان وأليته ملمعة‏.‏

وولد بها أيضاً مولود أشيب الرأس ونعجة لها أربع أيادي وأربع أرجل‏.‏

ووجد في بطن نعجة ذبحت خروف صدره ووجهه صورة إنسان وله أظافير الآدمي‏.‏

سنة سبع وتسعين وخمسمائه فيها قبض الملك العادل على أولاد أخيه صلاح الدين وهما الملك المؤيد مسعود والملك المعز إسحاق وسجنهما فى دار بهاء الدين قراقوش بالقاهرة وتسلم الأمير فخر الدين جهاركس بانياس من الأمير حسام الدين بشارة بعد حصار وقتال‏.‏

وفيها حدثت الوحشة بين الملك العادل وبن الصلاحية من أجل أنه خلع المنصور ابن العزيز وكتب الأمر فارس الدين ميمون القصرى من نابلس إلى العادل بإنكار خلع المنصور فأجابه العادل جواباً خشناً وتكررت المكاتبة بينهما غير مرة فكتب ميمون إلى الصلاحية يغريهم بالعادل فلم يجد فيهم نهضة للقيام وفي أثناء ذلك حدثت وحشة بين الظاهر صاحب حلب وبين عمه العادل وسير إليه وزيره علم الدين قيصر ونظام الدين فمنعهما العادل أن يعبرا إلى القاهر وأمرهما أن يقيما ببلبيس ويحملا قاضي بلبيس ما معهما من الرسالة فعادا مغضبين واجتمعا‏.‏

بميمون القصرى فى نابلس ومازالا به حتى مال إلى الفضل وإلى أخيه الظاهر فلما وصلا إلى حلب شق على الظاهر ما كان من عمه وكاتب الصلاحية ورغبهم وكاتب ميمون القصرى وشرع الأفضل أيضاً فى مكاتبتهم وهو بصرخد وانضوى إلى الأفضل الأمير عز الدين أسامة صاحب عجلون وكوكب وصلت له فبلغ ذلك العادل فتيقظ لنفسه وكتب إلى ابنه المعظم صاحب دمشق‏.‏

بمحاصرة الأفضل فى صرخد فجمع وخرج من دمشق فاستخلف الأفضل على صرخد أخاه الملك الظافر خضر وسار إلى أخيه الظاهر بحلب فى عاشر جمادى الأولى فنزل المعظم على بصرى وكاتب فخر الدين جهاركس وميمون القصرى يأمرهما بالمسير إليه لحصار صرخد فلم يجيبا وجمعا من يوافقهما وصارا إلى الظافر بصرخد‏.‏

وكتبوا إلى الظاهر بحلب يحثونه على الحركة وأخذ دمشق فوافته الكتب وعنده الأفضل فجمع الناس وعزم على المسير ثم سار الظاهر فلم يوافقه المنصور صاحب حماة فحاصره مدة ثم رحل عنه بغير طائل فنازل دمشق ومعه الأفضل وأتته الصلاحية هناك فخرج العادل من القاهرة بعساكره واستخلف على القاهرة ابنه الملك الكامل محمداً وسار حتى نازل نابلس‏.‏

وقدم العادل طائفة من العسكر فساروا إلى دمشق واستولوا عليها قبل نزول الأفضل والظاهر عليها فقدما بعد ذلك وضايقا دمشق فى رابع عشر ذي القعدة واشتد القتال حتى كادا يأخذان البلد فوقع بينهما الاختلاف‏.‏

بمكيدة دبرها العادل ففترت الهمة عن القتال وذلك أن العادل كتب إلى كل من الأفضل وإلى الظاهر سراً بأن‏:‏ أخاك لا يريد دمشق إلا لنفسه وقد اتفق معه العسكر فى الباطن على ذلك فانفعلا لهذا الخبر وطلب كل منها من الآخر أن تكون دمشق له فامتنع فبعث العادل فى السر إلى الأفضل يعده بالبلاد التي عينت له بالشرق وهى رأس عين والخابور وميافارقن وغير ذلك وبذل له مع ذلك مالاً من مصر فى كل سنة‏.‏

بمبلغ خمسين ألف دينار فانخدع الأفضل وقال للأمراء الصلاحية ومن قدم إليه من الأجناد‏:‏ لا إن كنتم جئتم إذ فقد أذنت لكم فى العود إلى الملك العادل وإن كنتم جئتم إلى أخي فأنتم به أخبر‏.‏

وكانوا يحبون الفضل من أجل أنه لين العريكة فقالوا كلهم‏:‏ لا نريد سواك والعادل أحب إلينا من أخيك‏.‏

فأذن لهم في العود إلى العادل فسار إليه الأمير فخر الدين جهاركس والأمير زين الدين قراجا وعلاء الدين شقير والحجاف وسعد الدين بن علم الدين قيصر فوقع الوهن والتقصير فى القتال بعدما كانوا قد أشفوا على أخذ دمشق وانقضت هذه السنة والأفضل والظاهر على منازلة دمشق‏.‏

وفيها تعذرت الأقوات بديار مصر وتزايدت الأسعار وعظم الغلاء حتى أكل الناس الميتات وأكل بعضهم بعضاً وتبع ذلك فناء عظيم وابتدأ الغلاء من أول العام فبلغ كل أردب قمح خمسة دنانير وتمادى الحال ثلاث سنين متوالية لا يمد النيل فيها إلا مداً يسيراً حتى عدمت الأقوات وخرج من مصر عالم كبير بأهليهم وأولادهم إلى الشام فماتوا في الطرقات جوعاً‏.‏

وشنع الموت في الأغنياء والفقراء فبلغ من كفنه العادل من الأموات - في مدة يسيرة - نحواً من مائتي ألف إنسان وعشرين ألف إنسان وأكلت الكلاب بأسرها وأكل من الأطفال خلق كثير فكان الصغير يشويه أبواه ويأكلانه بعد موته وصار هذا الفعل لكثرته بحيث لا ينكر ثم صار الناس يحتال بعضهم على بعض ويؤخذ من قدر عليه فيؤكل وإذا غلب القوي ضعيفاً ذبحه وأكله وفقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم إلى المرضى فإذا صار الطبيب إلى داره ذبحه وأكله واتفق أن شخصاً استدعى طبيباً فخافه الطبيب وسار معه على تخوف فصار ذلك الشخص يكثر فى طريقه من ذكر الله تعالى ولا يكاد يمر بفقير إلا ويتصدق عليه حتى وصلا إلى الدار فإذا هي خربة‏.‏

فارتاب الطبيب مما رأى وبينا هو يريد الدخول اليها إذ خرج رجل من الخربة وقال للشخص الذي قد أحضر الطيب‏:‏ مع هذا البطء جئت لنا بصيد واحدة ‏"‏‏.‏

فارتاع الطبيب وفر على وجهه هارباً‏.‏

فلولا عناية الله به وسرعة عدوه لقبض عليه وخلت مدينة القاهرة ومصر أكثر أهلها وصار من يموت لا يجد من يواريه فيصير عدة أشهر حتى يؤكل أو يبلى واتفق أن النيل توقف عن الزيادة في سنة ست وتسعين فخاف الناس وقدم إلى القاهرة ومصر من أهل القرى خلق كثير فلما حلت الشمس برج الحمل تحرك هواء أعقبه وباء وكثر الجوع وعدم القوت حتى أكلت صغار بنى آدم فكان الأب يأكل ابنه مشوياً ومطبوخاً وكذلك الأم وظفر الحاكم منهم بجماعة فعاقبوهم حتى أعياهم ذلك وفشا الأمر‏:‏ فكانت المرأة توجد وقد خبأت في عبها كتف الصغير أو فخذه وكذلك الرجل وكان بعضهم يدخل بيت جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تنزل ليأكل منها فإذا فيها لحم الأطفال وأكثر ما كان يوجد ذلك فى أكابر البيوت ويوجد النساء والرجال في الأسواق والطرقات ومعهم لحوم الأطفال واحرق في أقل من شهرين ثلاثون امرأة وجد معهن لحوم الأطفال لم فشا ذلك حتى اتخذه الناس غذاء وعشاء وألفوه وقل منعهم منه فإنهم لم يجدوا شيئاً من القوت لا الحبوب ولا الخضروات‏.‏

فلما كان قبل أيام زيادة النيل - فى سنة ست وتسعين هذه - احترق الماء في برمودة حتى صار فيما بين المقياس والجيزة بغير ماء وتغير طعم الماء وريحه وكان القاع ذراعين وأخذ يزيد زيادة ضعيفة إلى سادس عشر مسرى فزاد إصبعاً ثم وقف ثم زاد زيادة قوية أكثرها ذراع حتى بلغ خمسة عشر ذراعاً وستة عشرة إصبعاً ثم انحط من يومه فلم ينتفع به وكان الناس قد فنوا بحيث بقي من أهل القرية الذين كانوا خمسمائة نفر إما نفران أو ثلاثة فلم تجد الجسور من يقوم بها ولا القرى من يعمل مصالحها وعدمت الأبقار بحيث بيع الرأس بسبعين ديناراً والهزيل بستين ديناراً‏.‏

وجافت الطرقات بمصر والقاهرة وقراهما ثم أكلت الدودة ما زرع فلم يوجد من التقاوى ولا من العقر ما يمكن به رده‏.‏

 ودخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

والناس تأكل الأطفال وقد صار أكلهم طبعاً وعادة وضجر الحكام من تأديبهم وأبيع القمح - إن وجد - بثمانية دنانير الأردب والشعير والفول بستة دنانير وعدم الدجاج من أرض مصر فجلبه رجل من الشام وباع كل فروج بمائة درهم وكل بيضتين بدرهم‏.‏

هذا وجميع الأفران إنما تقد بأخشاب المساكن حتى دخلت سنة ثمان وتسعين وكان كثير من المساتير يخرجون ليلاً ويأخذون أخشاب الدور الخالية ويبيعونها نهاراً وكانت أزقة القاهرة ومصر لا يوجد بها إلا مساكن قليلة ولم يبق بمصر عامر إلا شط النيل وكانت أهل القرى تخرج للحرث فيموت الرجل وهو ماسك المحراث‏.‏

وفى هذه السنة‏:‏ قدم غلام سنه نحو عشر سنين - من عرب الحوف بالشرقية - إلى القاهرة أسمر حلو السمرة على بطنه خطوط بيض ناصعة البياض متساوية القسمة من أعلاه إلى أسفله كأحسن ما يكون من الخطوط‏.‏

وفيها مات الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي فى غرة شهر رجب بالقاهرة ودفن بسفح المقطم‏.‏

 سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

في أول المحرم‏:‏ رحل الأفضل والظاهر عن دمشق فصار الظاهر إلى حلب ومعه جماعة من الأمراء الصلاحية منهم فارس الدين ميمون القصرى وسرا سنقر والفارس البكى فاقطعهم الاقطاعات وأكرمهم وتوجه الأفضل إلى حمص وبها أمه وأهله عند الملك المجاهد وقدم العادل إلى دمشق ونزل بالقلعة ثم سار منها إلى حماة ونزل عليها بعساكره فقام له الملك المنصور بجميع كلفه ونفقاته وأظهر أنه يريد حلب فخافه الظاهر واستعد للقائه وراسل العادل وبعث إليه بهدايا جليلة ولاطفه فانتظم الصلح بينهما على أن يكون للعادل مصر ودمشق والسواحل وبيت المقدس وجميع ما هو فى يده ويد أولاده من بلاد الشرق وأن يكون للظاهر حلب وما معها وللمنصور حماة وأعمالها وللمجاهد حمص والرحبة وتسمر وللأمجد بعلبك وأعمالها وللأفضل سميساط وبلادها لا غير وأن يكون الملك العادل سلطان البلاد جميعها وحلفوا على ذلك‏.‏

فخطب للعادل بحلب فى يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة وأقطع الأفضل قلعة النجم مع سروج وسميساط وجهز العادل ابنه الأشرف مظفر الدين موسى إلى الجزيرة ليتسلم حران والرها وما معهما ويستقر بالجزيرة ويستقر الأوحد أيوب أخوه فى ميفارقين وترتب بقلعة جعبر ابنه الحافظ نور الدين أرسلان‏.‏

وأقر العادل ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى بدمشق وعاد العادل من حماة إلى دمشق وقد اتفقت كلمة بنى أيوب‏.‏

وفيها قتل المعز إسماعيل بن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن نجم الدين أيوب وذلك لما ملك اليمن - بعد أبيه - خرج عليه الشريف عبد الله الحسنى ثم خرج عليه نحو ثمانمائة من ممالكيه وحاربوه وامتنعوا منه بصنعاء فكسرهم وجلاهم عنها فادعى الربوبية وأمر أن يكتب عنه ويكاتب بذلك وكتب صدرت هذه المكاتبة من مقر الالهية‏.‏

ثم خاف المعز إسماعيل من الناس فادعى الخلافة وانتسب إلى بنى أمية وجعل شعاره الخضرة ولبس ثياب الخلافة وعمل طول كل كم خمسة وعشرين شبراً في سعة ستة أشبار وقطع من الخطبة الدعاء لبنى العباس وخطب لنفسه على منابر اليمن وخطب هو بنفسه يوم الجمعة فلما بلغ ذلك عمه العادل سير بالإنكار عليه فلم يلتفت إلى قوله وأضاف إلى ذلك سوء السيرة وقبح العقيدة فثار عليه مماليك أبيه لهوجه وسفكه الدماء وحاربوه وقتلوه ونصبوا رأسه على رمح وداروا به بلاد اليمن ونهبوا زبيد تسعة أيام وكان قتله في رابع عشر رجب من سنة ثمان وتسعن وقام من بعده أخوه الناصر أيوب - وقيل‏:‏ محمد - وترتب سيف الدين سنقر أتابك العساكر ثم استقل سنقر بالسلطة‏.‏

وفيها كان الغلاء بمصر فلما طلع النيل رويت البلاد وانحل السعر‏.‏

 سنة تسع وتسعين وخمسمائة

فيها وصل الفرنج إلى عكا وتحرك أهل صقلية لقصد ديار مصر فقدم من حلب خمسمائة فارس ومائة راجل نجدة إلى العادل وهو بدمشق فورد كتاب ناصر الدين منكورس بن خمارتكن صاحب صهيون يخبر بنزول صاحب الأرمن على جسر الحديد لحرب أنطاكية وأن أكثر الفرنج عادوا من عكا إلى البحر و لم يبق بها إلا من عجزعن السفر وأن بها غلاءً عظيماً‏.‏

وفيها نازل الأشرف موسى بن العادل ماردين مدة ومعه الأفضل ثم تقرر الصلح على أن يحمل ناصر الدين أرسلان الأرتقي صاحب ماردين للعادل مائة ألف وخمسين ألف دينار صورية ويخطب له بها ويضرب السكة باسمه فعاد الأشرف إلى حران‏.‏

وفيها جهز العادل الملك المنصور بن العزيز عثمان من صمر إلى الرها بأمه وإخوته خوفاً من شيعته‏.‏

وفيها شرع العادل فى بناء فصيل دائر على سور دمشق بالحجر والجير وفى تعميق الخندق وإجراء الماء إليه وقدم من عند العادل إلى القاهرة خلق لحفظ دمياط من الفرنج‏.‏

وفيها قصد الفرنج من طرابلس ومن حصن الأكراد وغيرها مدينة حماة فركب إليهم المنصور في ثالث رمضان وقاتلهم فهزمهم وأسر منهم وغنم وعاد مظفراً فورد الخبر بوصول الفرنج إلى عكا من البحر فى نحو سبعين ألفاً وأنهم يريدون الصلح مع الأرمن على حرب المسلمين وخرج جمع من الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب في شهر رمضان أيضاً وخرج إليهم المنصور وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر جماعة وانهزم من بقي‏.‏وفيها بلغ العادل أن الملك الأفضل على ابن أخيه كاتب الأمراء فأمر ابنه الأشرف موسى أن ينتزع منه رأس عين وسروج وكتب إلى الظاهر أن يأخذ منه قلعة نجم ففعلا ذلك ولم يبق معه سوى سميساط لا غير فسير الأفضل أمه إلى العادل لتشفع فيه فقدمت عليه إلى دمشق فلم يقبل شفاعتها وأعادها خائبة وكان هذا عبرة فإن صلاح الدين لما نازل الموصل خرجت إليه الأتابكيات ومنهن ابنة نور الدين محمود بن زنكى يستغثن إليه فى أن يبقى الموصل على عز الدين مسعود فلم يجبهن وردهن خائبات فعوقب صلاح الدين فى ولده الأفضل على بمثل ذلك وعادت أمه خائبة من عند العادل ولما بلغ الأفضل امتناع عمه عن إجابة سؤال أمه تطع خطبته ودعا للسلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب الروم‏.‏

وفيها زاد ماء النيل زيادة كثيرة ورخصت الأسعار‏.‏

وفيها انقضت دولة الهواشم بمكة وقدم إليها حنظلة بن قتادة بن إدريس بن مطاعن من ينبع فخرج منها مكثر بن عيسى بن فليتة إلى نخلة فأقام بها ومات سنة ستمائة ثم وصل محمد بن مكثر إلى مكة فحاربوه وهزموه ثم قدم قتادة أبو عزيز بن إدريس فاستمر بمكة هو وولده من بعده أمراء إلى أعوام كثيرة‏.‏فيها تقرر الصلح بين العادل وبين الفرنج وانعقدت الهدنة بينهما وتفرقت العساكر‏.‏

وفيها نازل ابن لاون أنطاكية حتى هجم عليها وحصر الإبرنس بقلعتها فخرج الظاهر من حلب نجدة له ففر ابن لاون‏.‏

وفيها أوقع الأشرف موسى بن العادل بعسكر الموصل وهزمهم ونازلها وبها السلطان نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي أتابك بن آقسنقر ونهب الأشرف البلاد نهباً قبيحاً وبعث إلى أبيه العادل بالبشارة فاستعظم ذلك وما صدقه وسر به سروراً كثيراً‏.‏

وفيها ملك الإفرنج مدينة القسطنينية من الروم‏.‏

وفيها تجمع الإفرنج بعكا من كل جهة يريدون أخذ بيت المقدس فخرج العادل من دمشق وكتب إلى سائر الممالك يطلب النجدات فنزل قريباً من جبل الطور على مسافة يسيرة من عكا وعسكر الفرنج بمرج عكا وأغاروا على كفر كنا وأسروا من كان هناك وسبوا ونهبوا وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك‏.‏

وفيها مات ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قطلوش بن بيغو أرسلان بن سلجوق صاحب الروم فى سادس ذي القعدة وقام من بعده ابنه وفيها عاد الأشرف موسى بن العادل إلى حران بأمر أبيه وهم العادل برحيله إلى مصر فقدم عليه ابنه الأشرف ثم عاد إلى حران‏.‏

وفيها خرج أسطول الفرنج إلى مصر وعبر النيل من جهة رشيد فوصل إلى فوة وأقام خمسة أيام ينهب والعسكر تجاهه ليس له إليه وصول لعدم وجود الأسطول العادلي‏.‏

وفيها أوقع الأمير شرف الدين قراقوس التقوى المظفري ببلاد المغرب فقبض عليه وحمل إلى ابن عبد المؤمن‏.‏

وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر أرض مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقبرص والموصل والعراق وبلغت إلى سبتة ببلاد المغرب وفيها ملك الفرنج قسطنطينية من أيدي الروم فلم يزالوا بها حتى استعادها الروم منهم فى سنة ستين وستمائة‏.‏

 سنة إحدى وستمائة

فيها تم الصلح بين الملك العادل وبن الفرنج وتقررت الهدنة مدة وشرطوا أن تكون يافا لهم مع مناصفات لد والرملة فأجابهم العادل إلى ذلك وتفرقت العساكر وسار العادل إلى القاهرة فنزل بدار الوزارة واستمر ابنه الكامل بقلعة الجبل وشرع فى ترتيب أمور مصر‏.‏وفيها ورد الخبر بأن الفرنج أخذوا القسطنطينية من الروم‏.‏

وفيها غارت الفرنج الإسبتارية على حماة فى جمع كبير لأن هدنتهم انقضت فقتلوا ونهبوا ثم عادوا‏.‏

وفيها قدم الملك المنصور صاحب حماة على عمه الملك العادل بالقاهرة فسر به وأكرمه ثم رجع بعد أيام‏.‏

وفيها أغار الفرنج على حمص وقتلوا وأسروا فخرج العادل من القاهرة إلى بركة الجب ثم عاد‏.‏

وفيها أغار فرنج طرابلس على جبلة واللاذقية وقتلوا عدة من المسلمين وغنموا وسبوا شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها أخذ الصاحب صفي الدين عبد الله بن شكر يغرى الملك العادل بأبي محمد مختار بن أبي محمد بن مختار المعروف بابن قاضى دارا وزير الملك الكامل حتى نقم عليه وطلبه فخاف عليه الكامل وأخرجه من مصر - ومعه ابناه فخر الدين وشهاب الدين - إلى حلب فأكرمهم الملك الظاهر ثم ورد عليه من الكامل كتاب يستدعيه إلى مصر فخرج ونزل بعين المباركة ظاهر حلب‏.‏فلما كان فى ليلة الرابع والعشرين من ذي القعدة‏:‏ أحاط به - نحو الخمسين فارساً في أثناء الليل وأيقظهوه وقتلوه ثم قالوا لغلمانه‏:‏ احفظوا أموالكم فما كان لنا غرض سواه‏.‏

فبلغ ذلك الظاهر فارتاع له وركب بنفسه حتى شاهده وبعث الرجال فى سائر الطرقات فلم يقف لقتله على خبر فكانت هذه القضية من أعجب ما سمع‏.‏

 سنة اثنتين وستمائة

فيها قبض على السعد أبي المكارم بن مهدي بن مماتى صاحب الديوان في جمادى الآخرة وعلق برجليه‏.‏

وفيها قبض على الأمير عبد الكريم أخي القاضي الفاضل وأخذ خطه بعشرين ألف دينار وأداها وأخذ من شرف الدين إبراهيم بن عبد الرحمن بن قريش خمسة آلاف دينار‏.‏

وفيها باشر التاج‏ بن الكعكي ديوان الجيش‏.‏

وفيها ضرب الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر الفقيه نصراً في وجهه بالدواة فأدماه‏.‏

 سنة ثلاث وستمائة

فيها كثرت الغارات من الفرنج على البلاد فخرج الملك العادل إلى العباسة ثم أغذ السير إلى دمشق ثم برز منها إلى حمص فأتته العساكر من كل ناحية فاجتمع عنده عشرات آلاف وأشاع أنه يريد طرابلس فلما انقض شهر رمضان توجه الى ناحية حصن الأكراد فنازله وأسر خمسمائة رجل وغنم وافتتح قلعة أخرى‏.‏

ثم نازل طرابلس وعاثت العساكر فى قراها ولم يزل على ذلك إلى أيام من ذي الحجة ثم عاد إلى حمص - وقد ضجرت العساكر - فبعث صاحب طرابلس يلتمس الصلح وسير مالاً وثلاثمائة أسير وعدة هدايا فانعقد الصلح فى آخر ذي الحجة‏.‏

وفيها حدثت وحشة بين العادل وبن ابن أخيه الملك الظاهر صاحب حلب فازدادت بينهما الرسل حتى زالت وحلف كل منهما لصاحبه‏.‏

وكثر فى هذه السنة تخريب العادل لقلاع الفرنج وحصونهم‏.‏

وفيها عزل الصاحب ابن شكر البدر بن الأبيض قاضي العسكر وقرر مكانه نجم الدين خليل بن المصمودي الحموي‏.‏

وفيها قدم مانع بن سلمان شيخ أل دعيج من غزية التي فيما بين بغداد ومكة‏.‏عبد الرحمن بن سلامة قاض الإسكندرية بها يوم الأربعاء ثامن صفر‏.‏

وفيها نفى الأشرف‏.‏

بن عثمان الأعور واعتقل أخوه علم الملك‏.‏

وفيها ماتت أم الملك المعظم بن العادل بدمشق في يوم الجمعة عشرى ربيع الأول ودفنت بسفح قاسيون‏.‏